الكاتب: الدكتور عبد السلام فزازي
بلاغة الصورة تتولى الكلام…
(*للمبدعة الباحثة مريم أفرحون)
عندما نتحدث عن الرؤيا الإبداعية في مجال التشكيل نعني نوعا من الوعي بالذات عبر ما تخطه يد المبدع. وحين نغامر في اقتحام وتفسير إنتاجه أو إنتاج بعض المبدعين وحسب الأجناس الأدبية والفنية التي يتبنونها ويعشقونها، أفلا نكون بصدد محاولة مناقشة وشرح ذات المبدع ذاته، وربما الدفاع عن إبداعه أكثر مما يفعل هو؟ ولعل قراءة استئناسية أولية لبلاغة الصورة لدى المبدعة المغربية مريم أفرحون تشي حتما بنوع من الإدراك الشامل لأشكال الصورة التي تجسدها على رقعة فضاء معين، حيث الذات تدرك صراحة الشكل باعتباره مجموعة مبنية لا فاصل بين عناصرها، الأمر الذي يظهر بوضوح في العاب الخدع les les jeux d’erreurs ، حيث يتم عرض شكلين أو صورتين تدركان في تماثلهما، إلا أن بعض عناصرهما المكونة تبرز اختلافا ما، هذه الاختلافات لا يمكن أن تدرك وترصد إلا عبر مجهود انتباهي، ومسح بصري منظم. وبناء على هذا يقرون بأن التربية البصرية هي أن تحارب هذا الحكم القبلي القائل: بأنه يكفي أن نبصر لنعتقد أننا فهمنا كل شيء وأحسسناه، والحال أن الصورة أو الشكل لا يمكن أن تعرف إلا عبر تحليل دقيق.
وهكذا يتجلى لنا ونحن نحاول اقتحام عالم المبدعة مريم أفرحون أن طابع القتامة يغلب على أعمالها، قتامة من التشاؤم الذي يختزل شحنات إبداعية تفرزها ريشتها التي كثيرا ما تستجيب للنداء العميق الذي لا تترجمه إلا هذه الكينونة التواصلية المتدفقة عبر توظيف الألوان المتداخلة والتي قلما تضمر هذه الروح المنسابة عبر ثنائية الطبيعة/ الطبيعة، أو الطبيعة/ الإنسان، إن لم نقل الطبيعة في تداخلاتها الوجودية الناطقة / الصامتة. ولعل هذه الصور التي تمثل جزءا من أعمالها المتنوعة تجعلنا حقا أمام حقيقة ميلاد الكائنات في إطار طبيعي تصنعه الريشة المعانقة للبعد الوجودي المتمثل في المبدعة ذاتها… ميلاد يكشف لنا عن لمرئي المتعلق أبدا بالطبيعة وهي تستقبل الكائنات في عز ضجيجها وطقوسها المتداخلة والدالة عن خبايا أسرار لا يستطيع البوح بها إلا من استطاع حقا الاستغوار داخل الذات الإنسانية والاعتمار داخل الطبيعة نفسها. وهكذا وفي نفس السياق يبدو لنا البحر عالقا بذاكرة المبدعة ما دام يمثل بالنسبة إليها مخزنا للأعاجيب وللعجائب وللأساطير، « ويؤسس الخطاب العجائبي بشعريته وفنيته خارج عالم الواقع وقوانين الطبيعة، وعبر آلية الانزياح عن عالم المألوف والمعقول، يشوش على المحكي الواقعي، ينتزعه من مألوفيته ويقذف به في عالم الغرابة والحيرة واللامعقول». فنكون بذلك أمام مقولة « أفكر في الطبيعة كما تفكر خلالي..». أكيد أنه نوع من الحلول داخل الطبيعة، والحال أن هذا البعد لا يتحقق إلا إذا كان المبدع حقا يستطيع تشريح الطبيعة إلى شظايا تؤهله لأن يصبح عبر الريشة صوفيا. وبهذا المفهوم الفلسفي العميق تصبح المبدعة وقد تلقت ما تلقته من المدارس التشكيلية المتنوعة والغنية، تمارس الرسم وهي تحاول ما استطاعت إليه سبيلا الابتعاد عن معانقة الألوان الباهتة ما دامت تضفي عليه شعلة متوهجة من روحها البدوية الطافحة التي غالبا ما تجعلها تعكس شغفها الكبير بالطبيعة وانغماسها حتى النخاع في التجربة الانطباعية وما بعد الانطباعية بألوانها العالية الحرارة ولمساتها التقريرية التي تمنح التشكيلي مشروعية النفاذ إلى رؤية فنية خاصة عبر خلخلة مقولتي المكان والزمان. وعلى هذه الشاكلة تصبح بدورها تعيش صورها مرتين، مرة عبر تداعي الطبيعة / الطبيعة داخل الذات المبدعة، ومرة عبر الريشة التي تترجم عنفوان العاطفة الشعرية الخلاقة، ناهيك عن البراعة الفكرية والفنية.
وتعتبر المبدعة في هذا الإطار استجابة شرطية لزمن مفعم بالعواصف والأحداث؛ تحاول الهروب عبر الريشة من الكابوس الوهمي الذي اصبح يوحي إلى الناس ببعض الأهواء المخيفة، فاستعارت بذلك فلسفتها من منطق الطبيعة الذي اصبح يبصم بقوة الذات الإنسانية بتشكلاتها الطالعة من تخوم وخرائب المعارك، واليومي القاتم؛ فكان لها الفضل في تفهم وإدراك هذه الأشياء وهي تحاول الهروب صوب الطبيعة واجادة التعبير تاركة بذلك الفرصة للمتلقي كي يبحث في الصور عن الذرات التي يتألف منها كل كائن من كائنات الطبيعة نفسها، فلا شيء عندها يولد، ولا شيء يفنى، وهو القانون الذي طبقه – لافوازييه – في الطبيعة. وهكذا يصبح عالم المبدعة من الممتع بالنسبة للمتلقي. وعلى المتأمل في صورها التعبيرية الفاتنة أن يتأمل الطبيعة وهي تغازل العواصف في كبرياء واستعلاء.. لا لأن قسوتها وخباياها غالبا ما تثور على الإنسان الذي يعتبر بحال من الأحوال جزءا منها، ولكن الرائع للإنسان من كل هذا، أنه يرضى ويقبل بأن يكون شاهدا على الآلام التي قد تصل أو لاتصل إليه، والتي لا يشاطرها فيها أحد.
ولم تكن المبدعة مبدعة عبر الريشة ومعانقة الألوان فقط، بقدر ما كانت مبدعة على مستوى الكتابة الشعرية التي تتقاطع شكلا ومضمونا مع التشكيل. ولعل هذا ما جعلها ترى وتدرك عن قرب العالم على شاكلة الفلاسفة، على اعتبار أن هذا العالم له بداية ونهاية. ولأجل هذا كله نراها تترك للريشة هامش التعبير عبر انزياحات قد لا يتحكم فيها الشعور بمعزل عن اللاشعور، ما دام هذا الأخير يمثل منطقة حبلى في كينونة الإنسان نفسه… وما دام للعالم بداية ونهاية، أو بمنطق الفلاسفة، للطبيعة نفس المنطق. وفي هذا الاتجاه حاولت المبدعة جاهدة تمثل العناصر الأربعة التي يسيطر عليها نفس النظام، فتصبح بذلك عرضة لتغيير مستمر، وتحول لا يستقر على حال. والعناصر الأربعة تتبدد لديها وتتوالد إلى ما لا نهاية له. وهذا ما تحاول ريشة المبدعة نقله إلى المتلقي وهي تجسد الطبيعة في عملية تناسل مستمر ينسحب على التفاصيل كل التفاصيل.. فالشمس عندها وهي ترسل أشعتها وحرارتها، سرعان ما تنقلب عندها إلى عنصر قابل للانطفاء ، وكما أن الأنهار والوديان والأخاديد كلها تسير وفق منطق الانسجام، مخترقة بذلك الأفضية التي تتشكل بتشكل التضاريس التي تستجيب بدورها لتداعي الفصول الأربعة. ولعل المرء يقف وهو يتفرس هذه الأفضية عند انزياحات جمالية تجد آلياتها الاستتيقية نابعة من تشبع المبدعة بثقافات متواترة، ترسخت في ذاكرتها انطلاقا من لعبة الثنائيات: الليل والنهار، الصبح والمساء، الطفولة والشباب، الشيخوخة والكهولة، اليابسة والبحر، الأرض والسماء، النور والظلام،الخ… وانطلاقا من هذه المفاهيم الدالة، يستطيع المتلقي المهووس بأشكال الصورة أن يدرك كيف تستطيع المبدعة تقريب طرفة اللوحة وهي تؤثث آليات التآلف بين كل ما يبدو فارقا في التباعد. وهكذا يجد المتلقي نفسه مجبرا على استحضار كل الرموز البلاغية التي تفرزها بلاغة الصورة المألوفة، وبذلك تصبح الألوان تتماسك بشكل هيروتيقي إلى درجة يتقاطع فيها لون من الألوان مع ما يبدو من تنافر تعمدته الفنانة كي تكسيه وتحمله أكثر من دلالة، وإلا فما هي العلاقة بين الطبيعة وهي ترتكز على تضاريس تعكسها العين القارئة وبين ما تحمله الألوان من مفارقات تشكيلية تجعل المتلقي يعيش نوعا من لذة المشاهدة والمعاينة ممزوجة بخبرة البحث عن التشاكل واللاتشاكل الذي يؤسس لهذه الأبعاد الدلالية التي تختفي وراء التنافر والتقابلات والأضداد ! . وكما أن معانقة المبدعة للطبيعة بمفهومها الشاسع جعلتها تضفي عليها حلة رائعة تتمثل في التلال والأعشاب البرية الجرداء التي سرعان ما تتحول إلى مروج تتمايل عليها الأزهار؛ ثم تنشئ أصناف الشجر فتسمح لها بذلك بأن تأخذ مكان نموها في الفضاء حيث تصبح الأرض عندها هي أم كل موجود، ولا شيء يخرج إلا من صدرها. ولكن إذا كانت للأرض لدى المبدعة صفة الإبداع، والقدرة على التوالد، فكثيرا ما يتحول كل شيء وهي طبعا عكس هذا. وعلى هذه الشاكلة توحي لنا صور المبدعة مريم أفرحون وكأنها تحدث الإنسان على الانعتاق من الوحشية، وكما تذكرنا على أن الطبيعة يمكن تهذيبها بيد الفن. ومتى شيدت القصور وتسامت الأبراج، إلا بالفن؟ وهل سخر البحر العظيم للسفن الصغيرة إلا بالفن؟. أما حين نحاول الإحاطة بعامل التكوين في اللوحة على اعتبار أنه بناء يقوم أساسا على الاتزان بين الكتل واتجاهات الخطوط الرأسية والأفقية، ففي هذا الموقف بالذات تظهر المرجعية الثقافية المغذية لعالم المبدعة مريم أفرحون التي عشقت مهنة تدريس الفنون التشكيلية عن اقتناع وحب قلما نجدهما عند الفنان الهاوي. وهذا ما يقود حتما المبدعة في جل لوحاتها إلى الانشغال بالطبيعة الكثيفة المتمثلة مثلا في السحب التي غالبا ما تخترقها أشعة الشمس الباهتة، وكذا حركة أغصان الأشجار التي تعريها من الأوراق حتى تستطيع أن تظهر مدى غضب الطبيعة الدال على تقلبات قد تؤثر بشكل من الأشكال على مزاجية الإنسان الذي يمثل عنصرا أساسيا لهذه الطبيعة / الحياة. ولهذه الأسباب كلها، تعمل مريم على استخدام تداخل الألوان في معظم أجزاء اللوحة كدلالة رمزية على مضمونها؛ وبالتالي التأكيد على الجانب الدرامي في اللوحة ذاتها. وكأننا بالمبدعة تهمس قائلة: ها أنا استشعر من خلال معانقة الطبيعة الكائنات الصغيرة، تلك التي قد تبدو في نظر المتلقي العادي تافهة ولا وظيفة لها داخل هذا الكون / اللغز. ولعل ارتكازي على هذه التفاصيل الصغيرة الدالة مثل أوراق الأشجار أو الحجر، أو الأغصان أو أشلاء متناثرة من الصخور، فإنها في الحقيقة تشحنني بالرغبة في أن أبدع شيئا خياليا، وبها تصبح الطبيعة المشتهاة والمطورة بهذا البعد الادراكي مصدرا لكل الهام يطوقني إلى مستوى من مستويات الحلول الصوفي الذي يتعذر شرحه وتفسيره بشكل مبتذل وبسيط. وهكذا يمكننا كدارسين لبعض أعمال المبدعة أن نبوح بحقيقة عميقة تسكن الفنانة، أقصد تلك المتمثلة في غوصها عميقا في جذور معاينة «الطبيعة» وان كل إبداعاتها الصادقة تنتمي حقا إلى عالم لم ينفصل البتة عن الواقع؛ الشيء الذي اكسبها طبعا لغة تشكيلية تتمثل في خطوط ملغزة، وهارمونيات لونية تميل مرة إلى القتامة الساحرة والمحيرة، ومرة إلى لونية رهيفة دالة. ولعل هذا ما يجعلنا نجزم على أنها لم تكن تميل أبدا في فنها إلى البحث عن المعاني بقدر ما كانت تميل إلى التعبير عن نفسية مقنعة بواسطة توظيف الألوان القوية الناصعة، أو تضاديات بين الألوان الدالة على رمزية الإنسان / الطبيعة. وفي الإطار نفسه يمكن لنا أن ندرك لدى الفنانة الباحثة نوعا من الإدراك التام لنظرية الأشكال والتي استطاعت من خلالها الوقوف على خصوصياتها التي تساعد لا محالة على تلقي وإدراك المعطيات البصرية والتي يمكن أن نجملها فيما يالي:
1-الطبيعة المباشرية الحدسية لإدراك المعطى البصري.
-الطبيعة الشعورية الحسية لإدراك المعطى البصري.
-الطبيعة الشمولية لأدراك المعطى البصري.
2-أولية الكل على الأجزاء في الإدراك.
-أولية مبدأ العلاقات بين الأجزاء.
3-ارتباط الشكل بالعمق وقوانين التمييز والفصل.
-قانون الصغر.
-قانون البساطة.
-قانون الانتظام والتقابل.
-قانون الاختلاف.
4- معايير تمييز العناصر المكونة للأشكال.
-القرب.
-المشابهة.
-التسلسل.
5-رسوخ الشكل ومقاييس الرسوخ.
6-إدراك الفضاء.
7-الفضاء والامتداد.
8-التجربة الإدراكية البصرية.
هذه الاقتراحات الجشطالتية، رغم قدمها النسبي لا تزال المعتمد الذي لا غنى عنه في مجالات الفن التشكيلي، والتواصل البصري.إنها عوامل ثقافية أغنت قريحة المبدعة، وجعلتها تعانق عالم الفن التشكيلي دونما أي هاجس قد يجعلها ترتاب من عالم تعبيري يعتمد أساسا على انزياحات شعرية ورمزية لغوية تشكيلية، تعكسها الريشة مثلما يستطيع أن يعكسها الشاعر وهو يؤثث قصيدته التي تعانق الأبعاد الجمالية في توهج لغوي أخاذ… وهكذا استطاعت مريم أفرحون أن تمزج بين التشكيلي والشعري انطلاقا من مفاهيم بصرية تستحضر الفضاءات، والامتدادات، والتشكلات التي تستجيب لقانون الاختلاف الذي لا ينفي بحال من الأحوال مبدأ العلاقات بين الأجزاء، وكذا قوانين التمييز والفصل.
ولعل كل هذا، جعل من المبدعة مريم أفرحون ذلك الإنسان المبدع الذي استطاع أن يسيطر على أدواته الإبداعية، فوجد في الطبيعة ما يريد أن يعبر عنه، فحق له بالتالي أن يوقع ميلاد الحرية التي تخول له التقاط موضوعاته من الطبيعة، الشيء الذي خول لها عبر لوحاتها الصارمة هذه إلى أن تؤسس لنفسها أسلوبا يتناسب مع هذا العالم الغريب الذي انغمست فيه، وهو بحق عالم تسكنه الأحلام المنفتحة على اكثر من نص مفتوح…
بقلم: الدكتورعبد السلام فزازي
أستاذ بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بأكادير / المغرب