الكاتب: أحمد قيود
إبحار بين الرومانسية والواقعية في-وشمة- الزجال يوسف فرديوي
حسب قول ابن رشيق*➊ سمي الشاعر شاعرا لأنه يشعر بما لا يشعر به غيره. مقولة يُجسدها المطلع التالي من قصيدة -وشمة- :
قالوا لي..
رسم الزين..
و وشم حروفو...
قلت لاش...
وأنا بعيني...
ديما نشوفو...
كلنا نعلم أن " الزين ..و.. حْرُوف الزين " هما معا خارج النطاق المادي ولا يمكن تجسيدهما برسم أو وشم. لِذا كانت إجابة الشاعر شاعرية حين قال: " وأَنا بْعِينِي...دِيمَا نْشُوفُو..." والعين هنا مجازية تعني القلب. هكذا يشعر الشاعر بما لا يشعر به الآخرون، لأنه يرى بقلبه وبإحساسه. والمطلع المذكور هو من المتن الزجلي الذي نحن بصدد قراءته للشاعر الزجال يوسف فرديوي عنوانه "وَشْمَة"
و ال "وشمة " لُغويا هي علامة تُرسم على الجلد بغرز الإبر ودَرِّ الشحم عليه، وليست هي " الشامة " التي تتخذ شكل علامة تكون على الجسم تُخلق مع المولود ويكون لونها مخالف للون الذات كلها. هذا حسب التعاريف المتداولة. أما "وَشْمَةُ" شاعرنا حسب المتن الزجلي فهي تحمل نفس المعنى غير أن الفارق يكمن في كونها لا هي وشم يُرسم على الجلد ولا هي علامة تُخلق مع المولود، بقدر ما أنها " وشمة " مكتسبة لا تُرى بالعين المجردة وإنما توشم في الذات وفي النفس وفي القلب.
قالو لي...
رسم الزين...
و وشم حروفو...
بطبيعة الحال أن " الزين " أي الجمال لا يمكن رسمه أو وشمه ماديا إلا على صفحة القلب. لأن الجمال مطلق والمطلق لا يُرَى بالعين المجردة، بل نستشعره ونحسه عن طريق القلب والعقل. كالجمال الخارجي والجمال الروحي ثم الجمال الفكري، وهي صفات يتصف بها مُجْتَمِعَةً الكائن البشري وبها يتميز عن غيره من المخلوقات.
قلت لاش...
وأنا بعيني...
ديما نشوفو...
و"دِيمَا نْشُوفُو" تُحيلنا على أنه بتكرار النظر إلى الشيء وبشكل مستمر، تترسخ عادة الألفة التي تشبه إلى حد ما حالة الإدمان، فيتولد ذاك العشق الذي يستحوذ على الذات كلها. والعشق هو حالة نادرة وفريدة، تجعل العاشق يسبح في عالم خاص به، ظنا منه أنه هو الوحيد في هذا الكون الذي حباه الله بمعشوق ليس كمثله شيء. ودرجة الظن هذا هي التي تدفع بعض العناصر الكيميائية داخل جسم العاشق إلى التفاعل، مشَكِّلة رسائل مشفرة تستحود على عقله وإحساسه، من منطلق أن ما رآه عيانا من جمال قد فعل فعلته في النفس وفي القلب وفي الذات كلها، فتتحرر تلك الرغبة الجامحة المسماة "حُبَّا" من أجل احتواء ذاك المعبود الذي ترسخت صورته في القلب. والتي تدفع العاشق وبشكل تلقائي - كما السحر - ليبذل الغالي والنفيس ويقدم كل التضحيات في سبيل الحفاظ عليه، حتى ينال الرضى والقبول من الطرف الآخر الذي هو المعشوق على منوال ما ذهب إليه جلال الدين الرومي في قوله : “لا يهدأ قلب العاشق قط ما لم يبادله المحبوب الوله. وحين يشع نور الحب في القلب فذاك يعني أن هناك إحساساً بالحب في القلب الآخر”.*➋ وفي سبيل تحقيق ذلك يضيف الزجال يوسف فرديوي :
قلت وشمتك
شهدة..
مدفونة ف دواخل الذات..
نقشتك جدبة...
مسكونة بسواكن الحال...
لاغيتك...
راريتك...
ناجيتك...
ف اشحال من موال ؤ موال...
وقوة الوله والولع هي من جعلت شاعرنا يضفي على معشوقته صفة "الشهدة"- " قُلْتْ وشَمْتَك... شَهْدَة مَدْفُونَة فَي دْوَاخَلْ الذَّاتْ" - ونعرف أن الشهدة تتصف بلونها الأبيض الشفاف ورائحتها الزكية، وكذلك بالهشاشة وسهولة الكسر، وقد تكون باهظة الثمن. وكلها صفات تنطبق على الحب في صفاءه ورقته وغلاءه وسهولة انكساره. وزاد الزجال فرديوي فأضفى عليها كذلك صفة "الجدبة" ال"مَسْكُونَة بَسْوَاكَنْ الحَالْ..." ف "الجدبة واسواكنها" وما يرافق ذلك من طقوس تكاد تكون غير مفهومة ولا معلومة، طقوس ينجدب إليها المريدون دون إرادتهم فيخضعون لقوانيها وأحكام ومتطلبات "مْلُوكْهَا" السبعة، كما يخضع العاشق لمعشوقه وهو في خضم جدبة العشق وحضرتها، غير راغب في الاستيقاظ من نشوة سُكرها. في ظل هذه المعطيات ومن خلال قراءة هذا المتن الزجلي الشيق، يُبحر بنا الشاعر الزجال يوسف فرديوي في عالمه الخاص الذي نكاد ندرك من خلاله كنه وطبيعة طقوس تلك البدرة التي اودعها الله في قلوبنا، والتي بواسطتها يتحقق ذاك الإحساس الغريب الذي نسميه "حبا" كما قد يتحقق "الكره"، وما الكره إلا حب معكوس. ولكي يحافظ شاعرنا على معشوقه كان لابد له من استيفاء مجموعة شروط عبر عنها المتن بعدة مجازات مثل :
لاغيتك...
راريتك...
ناجيتك...
ف اشحال من موال ؤ موال...
لأن المعشوق يسمو بالكلام الطيب والجميل فكان لابد من " لاغيتك..." وينتشي بالمداعبة واللعب والتغنج أي التدلل فكان لابد من " راريتك..." ويحب المناجاة والتعبير عما يخالج النفس والقلب والوجدان من لوعة الحب وما تكابده كل الأحاسيس من آلام العشق والغرام فكان لابد من " ناجيتك...ف اشحال من موال ؤ موال..." وكأني بالزجال يوسف فرديوي يتقمص البيت الشعري لأحد القامات الشامخة في العشق الذي قال :
يَهواكِ ما عِشتُ الفُؤادُ فَإِن أَمُت
يَتبَع صَدايَ صَداكِ بَينَ الأَقبُرِ*.➌
هنا لابد أن أقف لحظة تأمل في هذا الكم الهائل من المشاعر ومقدار الأحاسيس التي يزخر بها المتن الزجلي "وَشْمَة " ، وفي ذلك بطبيعة الحال لمسة واضحة وتأثير جلي لشخصية صاحبه، شخصية تكاد تفيض عزة وكرامة وحسا مرهفا ورقة في المشاعر، وهذه الخصائص تكون من شيم ذوي القلوب الكبيرة التي تسع العالم حبا، و لا تقبل الظلم أو الخيانة أو المكر.
داخلت عليكك...
بعرك هاد لحروف..
داخلت عليكك.
بمعانيها الكادية ف الجوف...
" داخلت عليكك..." في مفهومنا العامي فيها نوع من التوسل وقد تعني "استحلفتك ب.." والتوسل الوارد في صيغة "داخلت عليكك..." الغاية منه التأكد من صدقية هذه المحبة، أي استحلفتك بعَرَق هذه الحروف وبمعانيها " الكادية ف الجوف..." فالحروف تُشكل كلمات والكلمات تعطي معنى، وهنا نعود لِنُذكر بقوة الكلمة وتأثيرها على النفس والقلب. فهي كما قال الأديب عبدالرحمان الشرقاوي : "كأثر عطر يتركه المتكلم إذا مضى"، والكلمة قد تكون بلسما شافيا وقد تكون سما زعافا. والشاعر هنا يحاول الترويح عن النفس العاشقة وتخليصها من تلك النار المشتعلة التي وقودها كلمات منحصرة سجينة لم تجد الطريق نحو من تَخُصُّه، فرغم كل المجهودات المبذولة في سبيل إرضاء الحبيب، إلا أنها تبقى بالنسبة لِلمُتَيَّم مجرد كلمات عاجزة وغير مقنعة، مما يولد مزيدا من تراكم وتزاحم الكلام الذي يدفع بدوره إلى مزيد من الركض والجري وراء الحبيب، فيصبح العاشق كالبركان الذي لا يهدأ له بال إلا عند انفجاره وإخراج كل النيران التي تضطرم في داخله.
و "داخلت عليكك..." أي استحلفتك.. هو توسل موجه للمعشوق بخصوص :
إلى هي غير محبة...
ؤ ف رحبة البهاليل...
فرقونا ف الكلمة...
ؤ ساوونا ف الكفوف...
يحاول الشاعر هنا مساءلة نفسه وقلبه وعقله حول طبيعة هذا العشق، ومهما كانت النتيجة فإنها ستبقى غير مقنعة، لأن العشق غير قابل للقياس، كما أن عالم العشق ليس له حد ولا قرار. هذا ما حدا بزجالنا إلى طرح فرضية ما إذا كانت هذه المحبة حقيقية أم هي مجرد محبة في رحبة "البهاليل" و البهاليل هي جمع "بُهلول" أي المعتوه أو الأحمق أو المجنون. فإن هي كذلك فمن الخير والأفضل،
" فَرْقُونا ف الكَلمَة..."
" ؤ ساوونا ف الكفوف..."
والضمير "نا" يعود على الحروف، أي : افصلوا بيننا في الكلمة، لكن ساووا بيننا في " الكْفُوفْ" جمع "كفة" والمقصود هنا "كَفَّة الميزان" بمعنى طلب الإنصاف وتحقيق العدل الذي يضمن الحق المستحق لصاحبه، أي أنه إذا كانت الكلمة غير منصفة فلابد للعدالة الإلاهية أن تأخذ مجراها.
نلاحظ كذلك أن المتن الزجلي "وشمة" لم يخل من صور تعبيرية وبلاغية واستعارية قد زادته قوة، ومكنت من متعة القراءة. وكنموذج على ذلك الفقرة التالية :
ركد المعنى...
تحزم الحرف...
من خوفو عساس عليه...
دار بالو ف الكمرة...
بات ساقل ؤ حال عينيه...
والفقرة تجسد مشهدا يكاد يكون حيا من حيث قوة "المعنى" وبلاغة الصورة، حيث نرى كيف تطوَّعَ الحرف ليعمل ويكِدَّ في سبيل خدمة "المعنى" والحفاظ عليه من الضياع، وشمر عن ساعده من أجل توفير الهدوء والحراسة طيلة ليلة كاملة.
على كد النكد...
الدكة كانت مدكوكة...
ؤ كانت الكصبة معكودة...
والكامة الناقصة...
من ديك لخيوط...
نكملوها بعيوط...
نديرو لتل تاويلو...
ونديرو ل الكانون قانونو...
مهما كانت معاناة العشق وتوابعه، أفراحه وأحزانه، هدوءه وتقلباته. لابد في النهاية من الرسو على بر الأمان، وقبول الواقع على ما هو عليه. فبعد أن تم تشكيل حلم من الحياة حان الوقت الآن لتشكيل واقع من الحلم. لأن مرحلة العشق سرعان ما تنتهي كالحلم. لذا وجب:
نديرو لتل تاويلو...
ونديرو ل الكانون قانونو...
وهنا يقحمنا الزجال يوسف فرديوي في نمط آخر من الحياة، حيث ينتقل بنا من مرحلة الرومانسية إلى مرحلة الواقعية. وهي مرحلة تستوجب أولا وضع قانون لضبط أمور " الكانون " الذي هو البيت و "نديرو لتل تاويلو..." من أجل ضمان الأمان الذي هو أساس وجوهر الارتباط، أما :
الدكة كانت مدكوكة...
ؤ كانت الكصبة معكودة...
بمعنى أن كل شيء كان مخطط له في قدر الله منذ الأزل، مصداقا لقوله تعالى:"إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ" (القمر: 49). لذا لا ينبغي أن يُترك الحبل على الغارب، مع وجوب استحضار الثقة والإخلاص، وتحمل المسؤولية ثم تبادل الحقوق والواجبات كي يحصل ذاك التوازن الأسري الذي قال في شأنه المتن الزجلي :
والكامة الناقصة...
من ديك لخيوط...
نكملوها بعيوط...
مع استحضار المغزى الحقيقي من أنه في حالة ما إذا اضطربت أحوال السفينة، فهذا لا يعني أن العطب في السفينة، بقدر ما أن أحوال البحر وتقلباته هي السبب. والدليل قول الزجال فرديوي :
حينت هاد كانونك...
خلاك ؤ خلاني...
قربنا منو يكوي...
بعدنا يخنقنا دخانو...
والكدرة...
ما تطيب غير على ثلث مناصب...
والباب لي يدخل لحطب...
يعاون خوتو ف خروج الدخان...
نلاحظ كيفية توظيف الشاعر بعض المحسنات البديعية كالجناس فيما يخص مصطلح " الكانون" وكلمة " كانون " وردت في هذه الفقرة من المتن الزجلي بمعنى "كانون الطبخ"، خلافا للمعنى الذي أكدته من قبل والذي كان هو "البيت". بدليل قول الشاعر أنه إذا اقتربتَ منه تحترق وإن ابتعدتَ عنه يخنقك دخانه.
والكدرة...
ما تطيب غير على ثلث مناصب...
إن مجرد تَوفُّر بيت أو عش للسكن غير كاف كي تكون هنالك حياة متوازنة ومسؤولة، بل لابد من استيفاء التزامات أخرى أساسها العمل والإنتاج، ثم القناعة والصراحة. أضف إلى ذلك إتقان فن المعاشرة الضامن للاستمرارية. فالقِدر مهما امتلأ فلن يستقيم على الكانون مباشرة إلا بتوفر "ثَلْث مناَصَبْ" أي أسس. لتمكين النار من أداء مهمتها. وهكذا فالقِدر مؤنث والكانون مذكر ولكي تستمر الحياة والعِشرة بين المذكر والمؤنث كان لابد من "مْناَصَبْ" وهي الأسس اللازمة لدوام هذه العلاقة، والتي عبر عنها الزجال يوسف فرديوي في :
والباب لي يدخل لحطب...
يعاون خوتو ف خروج الدخان...
فلولا تلك ال "مْناَصَبْ" لما وُجِد الباب وهو تلك الفتحة الموجودة بين القدر والكانون، التي منها يدخل الحطب ومنها يخرج الدخان، إنها الواقعية في أسمى تجلياتها.
تلك هي فلسفة الحياة التي أوجزها زجالنا في متنه الزجلي العميق هذا، المبصوم بمداد الصفاء والموسوم ب "وشمة" الروح. حيث تمكنا من خلاله أن نستشف تلك القوة الخلاقة لذا شاعرنا يوسف فرديوي، الذي أتمنى صادقا أن أكون قد وفيت متنه الزجلي ما يستحق من القراءة والموضوعية.
أحمد قيود
16/02/2023
مــراجــــــــــــع :
" 1* العمدة في محاسن الشعر وآدابه " ص 116. لأبي علي الحسن بن رشيق المعروف بالقيرواني أحد الأدباء والبلغاء، له كتب عدة منها: كتاب العمدة في معرفة صناعة الشعر ونقده وعيوبه، وكتاب الأنموذج والرسائل الفائقة والنظم الجيد.
2* "كتاب المثنوي" لجلال الدين الرومى. وهو محمد بن محمد بن حسين بهاء الدين البلخى (1207 - 1273) اديب وفقيه حنفى و منظِّر وقانونى صوفى. اصوله فارسيه.
3*جميل بن معمر هو جميل بن عبد الله بن مَعْمَر العُذْري القُضاعي ويُكنّى أبا عمرو (ت. 82 هـ/701 م) شاعر وهو من عشاق العرب المشهورين.