الكاتب: العياشي تابت
دموع كاميليا
كلما ادلهمت الخطوب، وأحسست بالغربة في وطني، وتكالبت على صدري آهات من شتى المزامير الحزينة، أشيح بوجه ذاكرتي عن مصادر الأسى، وقد تعددت مشاربها بين إدارات ومستشفيات ومدارس وأسواق وأنفاق وأبواق وغيرها، بين بر وجو وبحر، بين رطب ويابس، بين مخذول وعابس... وكعادتي كل مرة، حين يَثقُل كاهلي، وأحس رأسي أثقل عضو في جسدي، أنزل بكامل الثقل على الوسادة، وأمنع نفسي من التفكير، في انتظار غفوة أو سبات، أو سهاد يؤرق جفني حد الممات...
الممات هذه المرة، كان نوما مغلفا بالكوابيس المرعبة، حيث العبور اللامرئي صوب العالم الآخر، حيث انقسم العالم إلى قسمين عملاقين، لا ثالث لهما: الجنة والنار... لا وجود للعالم الثالث، في قسمة عادلة، عز أن أرى فيها اعتراضا أو امتعاضا...
حرارة الغرفة جعلتني أسير مرعوبا، أنتظر المصير المرتقب، فرأيتني حافي القدمين، ظمآن الحلق، أعبر صحراء لا حدود لها، باتجاه غير معروف... إزاء السراب البعيد، كانت جموع غفيرة تبدو مثل أمواج متلاطمة، وضبابية الرؤية تحجب عني كل مايدور في الأفق...
حدثتني كل الوساوس عن ذنوبي وخطاياي، كانت تسردها بسرعة البرق كشريط سينمائي طويل جدا، وتعرض بين الفينة والأخرى إشهارا قصيرا لبعض الحسنات. كنت في تلك اللحظات العصيبة أحاول تأكيد حسن الظن بالخالق، وإبعاد منطق الرياضيات ، فالجمع والطرح والضرب والقسمة ، كلها عمليات ليست في صالحي...
فجأة، سمعت خلفي وقع أقدام قادمة، التفتُّ فإذا هي جموع غفيرة بين رجال ونساء وأطفال، يتسابقون باتجاهي، تضاعفت دقات قلبي، وكاد يغمى علي، فقد اعتقدت لحظتها، أنهم يبتغون إيذائي، وتحسست أجراس السلاسل دون أن أرى شيئا. وكنت على مرمى حجر من أخدود مليء بالنيران الموقدة... الجموع تقترب شيئا فشيئا، وكادت الضلوع تحترق ذعرا وصخبا. أحاطت بي تلك الجموع الغفيرة، وحالت بيني وبين الأخدود، وبدت على الوجوه ابتسامات لامعة، وعيون مشعة بالرضا، فازدادت حيرتي...وازداد هدوئي.
وفي غمرة الاندهاش والخوف، تقدمت نحوي نفس الفتاة التي قفزت من مكانها بالأمس حين رأتني بالمنتزه البلدي، تركت أمها وأختها وزميلتيها، وصاحت وهي تهرول نحوي: الأستاذ العياشي !!! أما زلت تذكرني ؟ أنا تلميذتك كاميليا...
سألتها: ومن يكون هؤلاء؟ أجابت والدموع تملأ خديها: إنهم جميعا تلامذتك الذين درستهم على امتداد السنين!!! مسحت دموعها بكفي، وما كانت غير دموعي التي ملأت وسادتي، ذات شرود...
....
...