أَغمِضْ عينيك، أنت في مدينة الحگاگشة

الرئيسية إبداعات قصةأَغمِضْ عينيك، أنت في مدينة الحگاگشة
الرئيسيةإبداعاتقصةأَغمِضْ عينيك، أنت في مدينة الحگاگشة

أَغمِضْ عينيك، أنت في مدينة الحگاگشة

أَغمِضْ عينيك، أنت في مدينة الحگاگشة

الكاتب: محمد غزلي

 

أَغمِضْ عينيك، أنت في مدينة الحگاگشة

 

أَغمِضْ عينيك، أنت في مدينة الحگاگشة. ( سلسلة نُصيصات -26- ). 
يُثرثر حسن كما لو اكتشف تفجير الذرة في دوار الحگاگشة، يجاوب عن سؤالاتنا وعن لاسؤالاتنا وحتى سؤالات عشش الدوار، ننصت له باهتمام على شكل صفين طوليين تتوسطهما حصيرة بلاستيكية وأغطية أرضية، كشجرات كاليتوس على جنبات طريق مغبر، نحن مُغبَرّون كذلك بيد أننا في هذه اللحظة نلمع لاستقبال حسن سفيرنا إلى شيخ الإسلام في مراكش الحمراء، لم يعد حسن بذقن حليق، ولم يسبق لأيدي حسن أن لمست يد شيخ من قبل، بل إنه ما توضأ في مدينة سوى ساقية دوار الحگاگشة بمائها الطيني الأحمر، حتى وهي ترِدها الحمير والكلاب والمواشي حين يشربون ثم يروثون ويبولون، الفرق بيننا وبين حسن في امتلاكه مصفاة حمام بخار خرق مبدأ المساواة الاجتماعية والدينية بين الجميع ولو كنا نتظاهر بها شكلا.
يصلنا من الغرفة صوت مواتير جلب الماء من قنطرة الساقية،  هناك تعلمنا السباحة في فترة تحيّن جفاف الساقية، ننبطح بطنيا في ضحضاح من ماء قليل على الهامش، نقبض على الطين ثم نخبط بأقدامن الماء، ونسحب شيئا فشيئا أيدينا من الطين ونُجدّف الماء من الأسفل بحركة مروحية مستمرة تجنبا للرسوب أو الغرق، الآن صار الجميع قادرا على النجاة، وبتنا نتطلع للبحر والسفر. 
سافر حسن لمراكش وعاد بحقيبة كتب دينية ومشتريات، تسابيح لؤلؤية، أعواد لشجر الأراك، قسط هندي مسحوق، أقمصة حريرية، قلانس مشبكة مراكشية وألبسة أفغانية،  سروايل فضفاضة، زيوت عطرية، عسل، خل التفاح الأحمر، وألبومات كاسيط تجويد القرآن؛ ميم غنة، باء تفخيم، عين مُنَعمة، قاف مقلقلة، صاد طاء بإشمام، ألِف إمالة، شين مُشتتة، راء مُكرَّرة.  الفتى حسن يقرأ الجزء القرآني ويشرح نَغمة التجويد. 
 الغرفة مُعتمة بنافذة وحيدة يكتريها الأستاذ يوسف المدرس في مدرسة الدوار لها ثلاثُ زوايا، زاوية تطل على المقبرة الكبيرة بأشواكها وحَطبها يأوي إليها لاعبوا الورق ومدخنوا الكيف، وزاوية تستقبل أصوات المسجد الكبير في قمة الكدية حيث يجلس النمّامون، وواجهة على جادة مُتربة تتوسط صفين من شجر الصبار حظنا منه ناموس مصاص للدماء يتسلل من فتحة التهوية لولا أنه يقع في شبكة خيوط عنكبوت نُسجت حول الإطار. 
يدخل أبو سفيان بجلبابه الصوفي الثخين وأقدامه المتوضئة حديثا عليها ارتسامات جوارب وسخة تخلص منها توا. ركن كريولته خلف مقهى "ولد قنفوح" المضببة برماد الدخان، وفي طاحونة بلحاج أوصل بطاريته الثقيلة بمقابض جهاز الشحن الصدئة ريتما يعود من جلسة حسن. 
انزوى متعبا متوسدا مخدة مغلفة ببطانة صوف الغنم بينما نتعلم نطق الحروف على طريقة التجويد، وبدأ يشتكي من عطل المولدات الكهربائية: 
«متى يحن الله على دوارنا بإنارة الكهرباء، لقد تعبت من شحن البطاريات وأعطاب المواتير، نريد أن نتواصل مع العالم بصحونه الهوائية».
رد عليه أحدنا: 
«إذا كنت تريد فُرجة على صحن لاقط فاذهب لقهوة صويلح، خربة مُكهربة، إسهرْ مع ندمائها إلى الخامسة صباحا على مشاهدة لقطات الصعود والنزول». 
«أعوذ بالله من الشيطان ومن قهوة ولد صويلح».
«ما لها؟».
«إنها مآوى الحشيش والقمًّارة والمقيمين الليل على خطط السرقة في الظلام الأسود».
قلتُ: 
«أجل،  صحيح،  الظلام يساعد اللصوص على السرقة».
قال حسن: 
«ليس من مصلحة اللصوص إنارة الدوار، فلتبقى العشش، ولتبقى الطرق مظلمة مكسرة ومحجرة عكس رغبة رجال الدرك».
يخرج أبو سفيان محفظة النقود من جيب القميص فتخرج معها محاصيل البيادر، أعواد قش وتراب وحبات قمح. ينفض الجيب، يقوم بتجهيز جيبه ليضع قطع المسك: 
«سمحو ليا على هاد التلوث راني ضال ليوم كنبلبط ف التبن». 
يسقط رجس أبي سفيان على الحصير، يقع الجميع في ورطة تلويث غرفة الأستاذ يوسف، ألعن أبا سفيان في نفسي:  «هذا الراعي يليق به الرعي حتى الموت، ما القيمة المضافة للدوار أن يتوب حسن من شرب الخمر وابتلاع الأقراص والحبوب إذا لم يغير أبو سفيان نمط عيشه». 
فتّ حسن فتافيت المسك على الإخوان اِستجابة لنداء الرب وتوديعا لمعاقرة الليالي، بيد أن فُتات المِسك لم يقاوم رائحة الغَنَم في ملابس أبي سفيان البيضاء. 
لحية حسن بدت أشد التماعا وشيئا من دموعه تكاد تنسكب وهو يتحدث عن لقائه بشيخ الإسلام: 
«حسنا، نحن بخير طالما نحن بشر مُكَرَّمون من الله، لم يحدث أننا كنا نلبس الأبيض النظيف ونتخشع بمراقي الذِّكر والقرآن، وها نحن الآن نتذوق النور ولو بضوء شمعة». لكن حسن لديه شعور بأننا أمام معضلات دينية لانجد لها حلا مقنعا عند أئمة مساجد الدوار. أغلق فمه ومكث متربعا قليلا على هيئة اليوغا، ونحن ننتظر أن يشغل آلة تسجيل صغيرة. شغّل جهاز التسجيل، ومن خلال بدأ يُسمعُ صوت حسن مفتتحا بمقدمة ترحيبية : « اِسمح لنا فضيلة الشيخ أن نطرح عليك بعض الأسئلة من إخواننا في مدينة الحگاگشة». 
يلتفت الشيخ إلى مُرافق حسن ويتبادلان النظرات: 
«فين جات هاد مدينة الحگاگشة».
......

<< العودة إلى الصفحة السابقة

شارك الصفحة على :

تعاليق

اترك تعليقا




إنسخ رمز التحقق

kH66UD

© جسور - 2024 - جميع الحقوق محفوظة.