حمامة الجوع الغبي

الرئيسية إبداعات قصةحمامة الجوع الغبي
الرئيسيةإبداعاتقصةحمامة الجوع الغبي

حمامة الجوع الغبي

حمامة الجوع الغبي

الكاتب: حسن برما

 

حمامة الجوع الغبي

 

حطت الحمامة الرمادية فوق سلك سياج حديدي صدئ، التفتت باستعلاء يمينا ويسارا، راق لها هديلها المقزز، استعادت ذاكرة أطلال لسجن خانق كان قصرا رمليا لأحد القواد المسعورين، مسحت منقارها بمخلب به بقايا فضلات بهيمية كريهة، وصفقت جناحيها طلبا لنعمة لا تسمن ولا تغني.

أرسلت نظرتها الغبية لبراري طينية عاشت جفاف الفصول والمشاعر، نطت من السلك، مشت بخطوات كائن معطوب فوق حصى ترابية وانشغلت بالتقاط حبوب قمح عفن وشعير أتلفته حرارة ظهيرة رعناء.

دوخها بحث التائه الجائع عن ما يسكت به بطن العاجز عن التخلص من لهفته المقززة، غنت للأنسام الحائرة "هبيل أنا غادي في التيرس الأحمق" ، ردد الخواء هديلها المعتوه، وتابعت استكشاف تربة لا تنبت سوى الأشواك.

أحنت رأسها المصاب بجذام القردة، بحثت تحت الطوب اليابس عن قوت مهمل، لم تعثر على شيء سوى المزيد من الطين المخلوط بروث بهائم نفقت بسبب توالي أيام العطش، رفعت رأسها للأعلى، تأملت زرقة سماء محايدة لا غيم فيها، عادت لهديلها الكريه، اضطربت وعجزت عن أتباع إيقاع معين، كانت تصدر أنات وأصوات تقشعر لها أبدان من حملتهم طرق التيه لعبور حقول استوطنها العدم.

رآها ثعبان أقرع أيقظه جوع غبي، زحف ببطء، اقترب منها، أوقفت نواحها، قفزت مذعورة، ابتسم وطلب منها الاطمئنان، لا تخافي.. قال، نحن أبناء ربع واحد، وخرافة الحشد الساذج جعلتنا نعيش جيرانا لا نغدر بعضنا، وما يؤذيك يؤذينا!

رفرفت بجناحيها المرتعشتين، ابتعدت عنه أكثر، حاولت الاحتماء بشجرة طلح زحافة، فوق غصن محمي بأشواك جارحة، حركت رأسها في كل الاتجاهات، صار هديلها المشؤوم قريبا من آهات احتضار فاضح، وقالت: "ابتعد عني يا وجه النحس، لا ثقة في المسموم الخبيث!"

حط قربها هدهد ملتح، تسمر فوق شاهدة قبر معزول عن قبور عشيرة أدمنت الخرافة ودفنت موتاها بطريقة عشوائية في أرض جرداء تمتلكها فصيلة تتاجر بالأوهام، حك مؤخرته، وطمأن الحمامة المرتابة، قال: "لا تخافي منه، أنا معك، أحرسك، والمسموم الأقرع لن يجرؤ على الاقتراب منك!"

عبث بتراب مبلل ببول ثور معتوه، قلبه بمخلب مروض على حفر الأرضيات المنبوذة، برز رأس دودة وخلفه حبل لزج يتلوى، أمسك به بمنقاره، أخرجه من التراب، قفز فرحا جهة الثعبان الأقرع، ابتلع الدودة، سخر من شيخه الدموي المصاب بداء التهام الجيفة، وخاطبه مستهزئا: "لو كنت قنوعا مثلي لكفاك دود الأرض وحشراتها المتنوعة، لكنك المسموم المرعب، لا تبتلع سوى الفئران والبيض والفراخ النائمة بأمان في الأعشاش المستباحة!".

حلق طائر حر تحت الزرقة المريبة، تمايل ببطء فوق جغرافيا تسلطن فيها الخواء، ذعرت الحمامة الرصاصية والهدهد الملتحي والثعبان الأقرع، قرروا إفراغ المكان، زعق الطائر الحر فيهم وطمأنهم، أخبرهم أنه عقد هدنة مؤقتة مع الغربان وبوم الخرائب وطيور الحقول المحروقة، وعاهدهم على الصيام واحترام طقس الجوع المشاع.

صارت حياته الآنية عذابا، لم يعد فيها ما يشتهى، هزمته آهات أطفال غادروا أسرتهم غير الدافئة واتجهوا لبحر مجهول وعدهم بالغرق، وبصوت يشبه العويل والنواح، بشرهم بإمساكه واحترام غريزة الحياة في تضاريس احتلتها وحوش آدمية لا تطيق مزاحمة أي كان من الطير و البشر.

غضب الطائر الحر من حياد السّفليين الممجوج، بسط جناحيه تحت الزرقة والغيوم العاقر، انسحب من خواء الجماجم والمصائر، توجه كسهم نحو قمة جبل سكنته أطياف تقتات من وهم موروث، تسمر قرب عشه المخبأ بشق صخري لا تطاله رعونة الأغبياء، واستحال شيخا حكيما يتأمل حقارة أجساد نخرها الجوع وتبعات يأس مشاع.

خلا الجو للحمامة الرمادية، خرجت من مخبئها الشوكي، نفخت ريشها، تحركت كراقصة تمارس غواية غبية، حاولت إغراء الهدهد الملتحي بتحريك مؤخرتها، نجحت دعوتها لممارسة الفحشاء، قفز فوقها ذو التاج المنقوص، أمسك مؤخرة رأسها بمنقاره المرتعش، واستسلما لرعشة دون عنوان.

حط قربهما سرب من الحمام الدائخ، أرغمته حرارة الظهيرة على اقتفاء آثار النقيضين، وجوع الدواخل أتلف الرؤية، شتتها، فرض عليها لحظة نفسية أدخلتها في حالة رقص بذيء وحركات جماعية داعرة، وفي سيادة العطش موت مؤكد وأهوال فناء قادم، والحمامات التي تخلفت عن قبيلة الجوعى مصيرها الضياع ورصاصات صياد طائشة.

أخذت الحمامة الرمادية نصيبها من اللذة الحرام، لم تسأل الهدهد الملتحي عن شرعية العلاقة، أنزلته من فوقها، ندم الثعبان الأقرع على إفلاته فرصة إشباع جوعه، وبكلمة سر معلومة، بنظام وانتظام، فزع سرب الحمام، مال حيث مالت المنكوحة، صنع دوائر متشابكة، وتوجه بسرعة نحو قلعة شيخ القبيلة.

حط السرب فوق أطلال القلعة، عانق صمت الخراب، هجمت عليه ريح العصر الهوجاء، غنت نشيد البطون الفارغة، اقتلعت ريش الأجساد المعطوبة، اختلط النشيد بأنات أشباح عمرت المكان في غفلة عن جنيات الغدر ببني الإنسان، استسلمت الحمامة الرمادية لواقع الحال، احتمت ببقايا جرة طينية، تفحصت عشها الموحش، جلست فوق ثلاث بيضات، استعادت حاجتها للهديل القريب من موال الوداع، ولم تكن تدري أنها تحضن بيضات ثلاثة ثعابين تركتهم الأفعى المتحجبة في عهدة حمام لا يفرق بين لمعان السم وبين ماء الحياة.

.......

<< العودة إلى الصفحة السابقة

شارك الصفحة على :

تعاليق

اترك تعليقا




إنسخ رمز التحقق

Vp6Nbm

© جسور - 2024 - جميع الحقوق محفوظة.