الكاتب: أشرف رضى
إنسان جذل بلا إنسانيته
تبدو لي الحياة بائسة، لكنني أعيشها جذِلا؛ أقضي النهار تلو الآخر مغتبطا بأشعة الشمس وهي تتسلل من النافذة متخللة أزهار المزهرية ليلتصق ما تبقى من أشعتها المنفلتة على الرف العلوي للمكتبة خلف المزهرية.. لا أخرج إلا ليلا ولِماماً، إذ لا شيء يدفعني لذلك، بالإضافة إلى أن هنالك الكثير من البشر في الخارج، وهم قابلون للاحتكاك. وذلك يخلّف -حال خروجي- مرارة وندما كبيرين في داخلي حين أعود ألى المنزل. فهؤلاء البشر غير صالحين للاحتكاك، رغم قابليتهم لذلك...
نعم! إنني أرغب في البشر أحيانا، أو -بصيغة أدق - في نوع معين من البشر، لكنني أعيش بمنأى عنهم.. أنظر إليهم من بعيد ومن فوق، من النوافذ ومن السطح؛ فيبدون لي كحشرات زاحفة، وهم جميلون كذلك. لكن عند الاحتكاك بهم... آاه! لا أريد حتى أن أفكر في ذلك.
كما أن لدي صديقا إنسانيا، تصور! إنساني ويحب نيتشه! ألقاه من فصل لآخر، يزورني هو في الأغلب، أربع مرات في السنة؛ ويظل يغدق علي بكلماته وثرثرته طوال ساعتين أو أكثر دونما توقف.. أجدني متخما قدامه، على وشك الغثيان أمام شروحاته المسهبة مُفرطة اللّينة والتلطّف، ولا متفاعلا أمام حجَجه الإنسانية الخرعة والمبتذلة تلك... "لم يفهموا نيتشه يا صديقي لم يفهموه، لم يفهمه أحد بعد، بل ولن يفهمه أحد..." يظل يردد لي بأسى زائف وإدراك مصطنع وهو يصعّد من نغمة كلامه.
لكني أحب وجوده أمامي: تقاسيم وجهه وهو يفصل أفكاره، سؤاله اللازمة ذاك "أفهمتني!" الذي يسألني إياه ليتأكد من أنني ما زلت معه على الخط، لغته الإنسانية اللّا معتَبَرة بالنسبة لي، وابتسامته تلك التي تنبثق حين أقدّم له اتفاقي على بعض أقواله... يُبهجني حضوره الإنساني ذاك. وأنا أتامل وجهه أفكّر مدرِكا: "إنه إنسان"! وإنني قادر على لمسه ومصافحته ومداعبته حتى... يا لها من حديقة!
ورغم جلوسي معه، وحديثه إياي وتدبّري إياه، إلا أنني لا أحتك معه.. لا أعطيه تصوراتي وأفكاري قط (إذ لا فائدة من ذلك، فهو إنسان بعد كل شيء وليس ورقة) فقط أحَسّسه بأنني أتفهّم تصوّراته، وذلك يمنحه حافزا وحيوية أكبر فيتحمس ويُقدِم دون تحفظات، بينما أظل أنا أشاهده وأشاهده.. أتفحصه وأتأمله.. وهو يسترسل ويسترسل.. إلى أن ينتهي. لا أنهي جلستي معه، فلست بالمبادِر، أتركه لِينهيها بنفسه.. فهو إنسان في الأخير، ودائما ما يسأم وسيسأم وستعييه ثرثرته وتقهقره، لتجعله في النهاية يبدو صغيرا؛ قزما نطناطا أمام نفسه.
.. أو تعلم؟! إنني أرغب حقا في الخروج، في المجانسة والاحتكاك، في التّعلّق وفي الآخر... لكن ما نهاية كل ذلك؟ أفكّر.. وأفكّر. تدفعني النهاية دائما للّا بداية. لكني أفكر، وفي التفكير خيال وتخيّل، خيال أبحر خضمه وأسافر خلاله، منه، وإليه إلى النهاية، وإلى بداية نهاية أخرى أشهَد خاتمتها.
فأنا أعيش النهاية بذلك بطريقة أو بأخرى... فما الحاجة إذن إلى الواقع وبدايته ونهايتها؟ أي متعة وجديد في ذلك؟ "الأحاسيس."
أكاد أسمع أحدهم يقول "لكل تجربة أحاسيسها وإحساساتها" يقول صديقي الإنسان. لكنها مبلَّدة لدي، بلَّدها التخييل، أو بالأحرى أفرغها من مستجداتها ومما يمكن أن تحويه. فالخيال أسبق من الواقع وتجاربه، له أحداثه وتجاربه الخاصة الكفيلة بإسقاط كل تطلع واقعي وهدف.
ومع ذلك، فثمة أوقات يعترضني الواقع فيها عن الاستطراد والاستفاضة والمبالغة في التخييل؛ إذ ما الجدوى من ذلك! - يستنكر علي.
التخيل مقعِد، وقد عشت مقعَدا، وتكيفت مع ذلك؛ فلم الخروج، والعمل، والتجانس والاحتكاك، والرغبة، والبحث عن الرفقة، والعلاقات... آاه! إنني بائس تعِس. لكنني جَذل لذلك بالضبط ومغتبط به..
وأحسب أن جذلي هذا وغبطتي هذه أرفع شأنا من كل نشوة ومن كل فرح. بل وأحسبني، أنا التخيُّلي المقعَد، أسمى قدرا من كل عاملٍ وفاعل وناجح؛ وها أنذا، أخرج -حين أخرج- منتصبا بقامتي، ناظرا إلى الآخرين من علٍ.. إذ إن طولي يسمح لي، في الكثير من الأحوال، بأن أمارس تفوقي المعنوي في شكل مادي أيضا.
لعل الشارع نفسه مكتوب على مطلعه: "للإنسانيين فقط"، ولذلك لا يسمحون بارتكاب الجرائم والصفاقات فيه، ويساعدون فيه بعضهم البعض، وقد يساعدونني أنا أيضا رغم أنفي إن تطلب الأمر ذلك..
لكنهم لا يعرفونني؛ يرون عيني، فمي، أنفي، رجليّ وأذنيّ فيقولون: هذا شريكنا، أخونا في الإنسانية. لا يعرفون أنني، أنا نفسي، وإن كنت إنسانا إلا أنني متجرّد من الشرط الإنساني، خالٍ منه، أو.. ولأقول ذلك بعبارة أبسط: لستُ إنسانيا.
أشرف رضى. طالب بسلك الماستر.