الكاتبة: حياة عاشر
حلم قلم
دقات جرس نهاية الدروس لهذا اليوم، كانت أقل إزعاجا من سؤال الأستاذة الذي دونته في مذكرتي:" كيف تتخيل حياتك بعد خمس عشرة سنة من الآن؟".
لم أتوجه إلى البيت مباشرة بعد الدوام، توجهت إلى متنفسي في بلدتي الفقيرة، حديقة النخيل والزيتون، رميت بجسدي على كرسي متهالك، تمددت على ظهري ووجهت بصري صوب السماء، لعلي أزيل عني هذا التوتر، أو ربما أستجدي المساعدة ...فتحت صفحة السؤال في المذكرة فوضعتها على وجهي...بعد هنيهة شعرت بكلمات السؤال تتململ يمينا ويسارا، رفعت المذكرة إلى أعلى، كلمات السؤال تتمرد وتقفز خارج السطر، الحروف تتباعد فتتفكك عن بعضها، تناثرت قليلا ثم عادت لتنتظم في شكل دائرة بزوايا قائمة كأنها صحن فضائي،شرعت في البداية تلف ببطء حول نفسها ثم زادت في سرعة الدوران، تحركت خارج أوراق المذكرة فزاد حجمها، بدأت تبتعد...خوفا من ضياع السؤال قفزت إلى داخل تجويف الدائرة، نبضات قلبي تدق بسرعة، ضمتني إليها الحروف التي التفت حول جسدي، شعرت بدفء كأني بين أحضان أمي الحنون واسترخيت...
ألم شديد في راسي، رؤيتي للأشياء يغشوها ضباب، سرعان مابدأ يتبدد...انقشعت الرؤية قليلا، أشجار سرو وأرز مكسوة بالثلج، درجة الحرارة منخفضة وغير مألوفة، جالسة على كرسي مختلف عن كراسي حديقة النخيل والزيتون، ملون بالأحمر والأبيض والأزرق، لمحت بابا فوقه تمثالين لطفلين عاريين، بينهما لوحة مكتوب عليها باللغة الفرنسية “Jardin charles de gaulle”...
انتابني رعب شديد، ركضت خارج حديقة شارل دوجول، وإذا بي وسط شارع كل لوحاته التجارية مكتوبة باللغة الفرنسية، السيارات الناس الواجهات كل شيء مختلف...بحذر عبرت الشارع والناس تنظر الى هيئتي وثيابي وملامحي في استغراب، وقفت قرب بوابة عليها اسم مشهور لنشر الكتب، وعلى واجهتها الزجاجية رأيت إعلانا مكتوبا باللغة العربية والفرنسية، يعلن عن حفل توقيع بأكبر مكتبة بباريس للروائية المغربية"ح.ع" لروايتها"حلم قلم" التي حققت أعلى المبيعات لسنة 2036م وفي أعلى صورة لامرأة في الثلاثين كل ملامحها ملامحي.
تسمرت في مكاني وقد لبستني الدهشة وأنا أصيح:" حلم قلم؟ حلم قلم؟" إنه مشروع روايتي بل مشروع حياتي أن أكون روائية مرموقة، المشروع الذي من أجله أدمنت قراءة عشرات من الروايات لمحفوظ وحنا مينة وإحسان عبد القدوس ويوسف زيدان وأحلام مستغانمي، بينما أنا ممزقة بين الحوف والفرح، والماضي والحاضر، إذا بالروائية تخرج من دار النشر، تمسك بيدها طفلا جميلا تلاعبه إنها سعيدة في حياتها، أسرعت الخطو نحوها، فتحت لي ذراعيها بعفوية كأننا على موعد، عانقتني بحرارة وهنأتها بما وصلت إليه مهنيا، قبلت طفلها متمنية لهما حياة أسعد...ابتسمت وقالت:" الشكر لك أنت، الناس ترى الثمار ولا ترى البذور فأنت البذرة التي أعطت هذه الثمرة".
صار العابرون والصحفيون يلتقطون صورا لنا، يسألون عن الرواية وعن العلاقة بيننا، أدركت أن مكانتها مرموقة، سعدت لذلك فما كنت احلم به سنة 2021 قد تحقق الآن...خوفا علي من الصدمة دثرتني بمعطفها وامسكت بيدي وأعادتني إلى كرسي في الحديقة المجاورة، طبطبت على كتفي، طلبت مني أن ننشد معا بلغة الضاد الجميلة، قصيدة أحفظها للشاعر أدونيس...بدانا اللإنشاد، صرت أنسلخ من هذا المكان...فتحت عيني على النخيل والزيتون ودفء وطني وعلى لساني القصيدة:
ذلك الطفل الذي كنت أتاني
مرة
وجها غريبا
لم يقل شيئا مشينا
وكلانا يرمق الآخر في صمت خطانا
نهر يجري غريب
جمعتنا باسم هذا الورق الضارب في الريح الاصول
وافترقنا
غابة تكتبها الارض والفصول
أيها الطفل الذي كنت تقدم
مالذي يجمعنا الآن وماذا سنقول؟
حياة عاشر
ايت اورير، مراكش