الكاتبة: حياة عاشر
بين الضلال
قفطان ابيض مطرز، جسد هزيل، مثقل بمجوهرات مرصعة بالجواهر، وجه شاحب وعينان زائغتان شاردة في اللاشيء، تتناهى إلى مسامعها أصوات مبهمة وكأنها قهقهات ممزوجة بزغاريد، خصور تتمايل على إيقاعات لا تسمع وأثواب ملونة مكومة في كل مكان.
نجمة...نجمة التي خفت نورها وخمد, نجمة ذات الأعوام الثالثة عشر, ترتدي اليوم ثوب اغتصاب طفولتها, ثوب مأتمها لا زفافها...انقطع حبل أفكارها بهزة عنيفة ونظرة ثاقبة اخترقت رأسها وأفكارها, قادتها إلى الغرفة المجاورة امرأة أربعينية ذات ملمح جامدة معتادة, ممثلة تتفنن في إتقان دورها في كل مأتم تحضره بالقرية لتزين الضحية قبل أن يقدمها رجلها قربانا للتقاليد والعادات, فتح باب الجحيم وخرجت نجمة ملفوفة بثوب احمر لونه كالدماء القانية بخطوات متثاقلة سارت, عيناها اغرورقا بدموع حبيسة, بداخلها وفي زاوية مظلمة تبكي طفلة فقدت دميتها, وعلى شفتيها لاصق العنوسة, همست المرأة بأذنها زاجرة إياها:
- بتسمي يا فتاة إن رآك الحاج هكذا سيظن أنك لا تودين الزواج به ومن يرفض النعيم ولو كان الزوج تسعينيا.
وكزتها بمرفقها مسترسلة بابتسامة خبيثة:
-آه عليك أيتها الشيطانة تدعين الخجل الآن فقط...أنا أيضا كنت مثلك.
شعرت بالاشمئزاز وبلعت غصتها, راقبت في حسرة نساء تجردن من إنسانيتهن ودارين نقصهن بأثواب مزركشة, كانت عيناها اللوزيتين تتعلقان بكل امرأة دست نقودا بخسة في يدها ان انقديني فما نفع النقود لمحكم بالإعدام, ويكرر الشريط نفسه في قرية اغتصبت طفولة جداتها ومن بعدها أقرانها وهاهي ذي تعيش اللحظات ذاتها, تقف أمها كالصنم في زاوية الصالة, لمحت نظرات وردة المستنجدة, لم تحرك ساكنا وسرعان ما اختفت وسط النساء فكيف للأموات أن يملكوا مشاعر,هي فقط أم تقتل ابنتها بنفس السكين الذي قتلت به, تعالت الزغاريد فجأة عندما صدر صوت احتكاك عجلات السيارة من الزقاق, والتفت النساء حول نجمة يلقين الورود عليها, كانت تشعر به يلسعها لوهلة ظنته أشواكا.
خطوة ثم خطوتان ثم ثلاث، وها قد صارت في بين أربع جدران بيضاء وباردة كالموت، تعلقت عيناها بمقبض الباب وهو يفتح، جسد ضخم يتقدم نحوها، ارتعشت أطرافها من نظراته، نظرات ذئب يسيل اللعاب من فمه وهو يتفحص فريسته، غرست عيناها في الأرض، تمنت لو كانت ترابا، زهرة أو نقطة تضعها على السطر وتنهي كل شيء، شعرت بكفيه تعتصران أناملها الرقيقة، فتمنت أكثر لو لم تكن، تفحصها بخبث وقهقه بصوت تردد صداه في أرجاء الغرفة ثم نطق:
- لا داعي للخجل لقد صرت عروستي.
أرسل إليها نظرات ثاقبة مشيرا إليها أن تتجرد من طفولتها وتهبه ما يرضي رغبته الحيوانية، اقتربت منه نجمة لتطوف الغرفة في صمت لا يتخلله سوى زغاريد النسوة وراء باب الغرفة، انطلقت من الغرفة صرخة هزت جدران المنزل، خرست الأفواه وارتفع صوت الأقدام متجهة إلى مصدر الصرخة، فتح الباب وظهرت نجمة بفستانها الأبيض الملطخ بالدماء، طعنة لطفولتها، وطعنة لدميتها التي سلبوها إياها، ثم أخرى لغزل البنات الذي لم تتذوقه يوما.
أسابيع، سنوات وتمضي الأيام مسرعة، قرب بيت حجري تنطلق منه الزغاريد ودقات الطبول وقفت امرأة مسنة ترك الزمان بصمته على تقاسيم وجهها، تراقب عروسا في ريعان شبابها تمسك يد زوجها وقد توج حبهما برابط مقدس، التفتت العروس وتعلقت نظراتها بتلك العجوز التي انحنى جذعها، رفعت نجمة كفها لوحت لهما ثم توارت في الظلال.
حياة عاشر