الكاتب: محمد غزلي
ركض الليل
( سلسلة نُصيصات - 29- )
جَلَسَتْ تنظر إلي بقلق، صاحبي كان مُقززا، بلحية وجلباب قديم متهالك، أعتذر عن توصيفي له بصاحبي، كنا نبدو كصواحب شكليا فحسب، كسوة شبيهة، ولحية كذلك، لحيتي مشذبة وشاربي مشذب قريبا من مستوى قَصَّة اللحية، بينما شاربه محلوق، ولحيته إلى الصدر منفوشة وغير مرتبة، زغبها خيوط متعلكة متسخة، ملامحه تحدثك عن فوضى عارمة، مُعَمَّم كصورة الذين يتقربون إلى الله بالقتل، صورته حري بنا أن نضيفها إلى مخلفات زمن القرى المُتقاعدة . توجهتُ صوب نافذة الطاكسي أحملقُ في محطة الزمامرة، للتو انتهيت من شرب قنينة صودا صغيرة مثلجة، وأخرى أحتفظ بها للترياق عبر مسافة الطريق إلى الجديدة. حتما هو يشعر بالضيق من الفتاة. زم فمه وأطلق أنفه للزفير يتمنى لو أن السائق دفع نسوان السفر للنزول سوى الذكران، السائق يبتسم ويقول «مهلا يا رجل سنجد الحل، لك أن تستقل المقعد الأمامي لوحدك». طلب من الشابة النزول إلى المقعد الخلفي حيث أنا، ندمتُ على استقلال نفس الطاكسي لولا نظرات إعجاب الأنثى الثلاثينية، رحبتُ بها وقلت مطمئنا لها:
«تفضلي، اِجلسي، لن أوذيك، لا داعي للقلق، لسنا عصابة لحى، ربما أنت مخطئة، وأنا سعيد أجلس بقرب أنثى جميلة» قلت ذلك لأبدو مختلفا. ثم أردفتُ:
«أيمكننا التحدث».
«الواقع أنني لا أرغب في الحديث».
اِعْتَقَدَتْ أنني سأتصرف مثل صاحبي، مقياس التصنيف لديها متشابه، تعتقد أننا نتشابه في المنطق طالما نتشابه في الشكل. اِبتعدت بالكتف وظل الورك والفخذ ملتصقا بي، أشعر بحرارة الالتصاق.
«اِنسي الأمر، ماذا حصل بالضبط، لقد صعدتُ للتو».
«غبي غبي، مكلخ، موسخ، جبان، لا أعرف من أين تأتون لتحكموا علينا بالانحراف، لماذا تطاردوننا، دعونا نعيش كما نبغي، من أنتم؟».
فهمت السبب، أخبرتني نظراتها للرجل المُعَمم بكل شيء.
تتحرك السيارة ببطء، الشمس تقصف الزجاجة ناحيتها، دسستُ مَلفي بين الزجاجة والإطار لحجب الشمس عن وجهها الوردي، بدأت تنظر إلى تصرفي بإعجاب، وبدأت تكتشف أن اللحى غير متشابهين ولو أننا نعيش في عالم واحد. كانت عيوننا تلتقي بلا حواجز، تنفستُ بعمق وشرعتُ في الكذب متظاهرا بأن عيني رمقتها يوما:
«إنني أعرفكِ، لقد سبق لي أن رأيتكِ في مكان ما» كان الهدف أنني أفتح شهيتها للحديث. ردت:
«ربما».
ابتعدتُ قليلا كي أعطي الانطباع بأنني لا أريد الالتحام الجسدي:
«أكيد، لقد التقينا بالفعل في رصيف الپرانس عند رجل الأكسيسورات، ألستِ صاحبة السترة السوداء والبنطال الأصفر اللاصق؟ أنا أتذكرك بجسدك الممتلئ».
«ماذا تقول؟ رجل أكسيسورات البنات. إنه أنت؟ يا للصدف الغريبة».
«صحيح».
تظاهرتُ برؤيتها، وتظاهرت هي بمعرفتي لمجرد أن أخبرتها بأني رجل أكسيسورات. النساء لهن عشق غريب لأي شيء إسمه مستلزمات المكياج وقطع الزينة والذهب. فتحت فمها قليلا معبرة عن تذكرها لملامحي. خمنتُ أنها وسيلة جذب للتواصل حيث تعطي الأنثى إشارات الرغبة في المواعدة، أدرك أنها اللحظة التي عليّ تأمين مشاعرها من توجس أي غلط بحق رجل غريب:
«أعتقد أنه يجب عليّ أن أخسر بعض الأشخاص لأكسب آخرين».
«ماذا تقصد؟».
«أقصدك أنتِ، أريد أن أكسبك أنتِ».
السائق يحرق سيجارة ويقطع مكالمة عبر الهاتف مع طرف في وضعية مغلق الفهم أو لا يفهم لغة التفاهم، يلتفت إلى «اللحية» كأنه ينتظر رأيه:
« نحتاج إلى ضبط مواعيدنا وأوقاتنا أكثر من ضبط أوقات الصلاة، كل شيء عندنا خارج الانضباط إلا الصلاة، دعونا نقتبس من طريقة النصارى أشياء مهمة. «اللحية» يلتزم الصمت ويلقي نظرة إلى الجانب الآخر ينآى بنفسه عن التدخل، كل ما كنت أخشاه أن يتدخل في وشوشتنا الثنائية:
«اتق الله يا أخي، نجوى الحب من الشيطان» هكذا يتدخل بلا معذرة ولا أسف على التدخل البيني المفاجئ.
استدارت استدارة خفيفة سمحت لي برؤية خالة شفتها العليا:
«أرى أنكَ شخص ناضج».
تخففتُ من رِعدة اللسان الناجم عن فض النزاع، على الأقل لمعت أساريرها كما لو أنقذتها من رجل يحمل سكينا ومستعد لطعنها باسم الله وباسم الشرف.
«بالطبع أنا كذلك وليستُ بمستوى رشاقتك». سَحَبَت يديها المبسوطتين بين ركبتيها وبدا أنها استنفذت تنهيدات طلقة الحديث الأولى وباتت تتنفس بهدوء يصل حديثها محمولا عبر أنفاسها إلى أذني هادئا ولطيفا هذه المرة عكس بدايتها المتشنجة:
«أنتَ كذلك رشيق، هذا واضح من بنيتك الجسدية».
وحركت رأسها على نحو مَكَّنها من إسناده قليلا إلى ناحيتي. أجد ذلك مألوفا لفتاة تود اكتشاف كل شيء عن صديقها الجديد:
«غير شوية ديال الجري، كنجري بنهار وبالليل. ولكن الجري تع الليل هو الواعر هههه».
قاومتْ ابتسامتها قليلا ثم لم تمتلك نفسها وضحكت ضحكة من العمق صعدت بنا إلى السماوات.
......
.....