الكاتبة: سهام الكاس
ما كان نسيا منسيا
هناك في مكان قصي، حيث أرخى الليل سدوله، وخيم صمت مطبق والهدوء المخيف، ربما ينبئ بأسرار تحاك على نول عتيق تحفه الفظاعة من جميع الأركان.
تلك الحصى التي ترمى في بركة الشهوات الآسنة التي امتطت صهوة المخيلة فما عرفت أي جماح أن تحكم.
الهوة التي ردمت دون أن يعرف مدى عمقها، ردمت على الأحلام والآمال والظنون وما أقسى الظن وأجشعه وما أمره لو لُوِّكَ بأنياب الغريزة.
كانت امرأة أكملت نصاب الأنوثة وتعدتها حتى فاحت، قارورة عطر ترج ولا أحد هناك ليشمها ويشتمها، سيقان بيضاء ممتلئة، قوام ممشوق وزع به الفيض والترف في مناطقه الأصلية التي تجتذب أقسى أنواع الشوارب وأعنتها، أما الجدائل السوداء فحكاية أخرى، تجدلت فأقحمت نفسها في سجالات المهرة التي تأبى أن تروض، ثم إن السحر كل السحر في النظرة الممتزجة بين التمنع والخضوع ثم الجرأة والتخاذل. العينان الخضرويتين وسط سحنة الإستحياء يجعل استباحته فتحا عظيما. كيف لهذا الجمال إن غشاه الليل بخماره إلا أن يكون خمرا معتقا، لن يقاومه إلا شديد غالب نفسه وشيطانه. في سفرة مهدت لها أمها بسيل من الترجي والتوسل لدى الأخ الأكبر "بوبكر" الذي حمل أنفة، سعة صدره كانت أصغر منها، مما جعله يحيل الأمور كلها إلى عزة نفسه وشرفه، قليل الصبر وأقصر بالا من أن يدخل في دواليب المناقشات مما يحيله فظا فجا في أحيان كثيرة.
في ذلك البيت الجبلي كانت كلمة او سطوة بوبكر أكبر ثقلا من الأب علال الذي يخلق فيك إحساسا بالتعاطف معه، رجل حمل من ثقل الأيام ما أطاح بظهره وأرداه أعزلا إلا من رتبة شرف في بيته. شخص حنون طوعته الأيام حتى صار قليل الكلام صونا لسلامه وراحته الظاهرية، فهدوئه كان مصطنعا مفتعلا وكأنه سياج حوط به نفسه، لكن حواراته الداخلية نيران أبت أن تخبو، نيران حطبها الذكريات، واللوم هو الفتيل توبيخ النفس وجلدها بسياط العتب، وتتنوع السياط بتنوع مواضعها، فهذا على حزة قطعة الأرض التي لم يمتلكها كباقي القبيلة، والآخر على مواقفه النبيلة حد الهبل داخل القبيلة وخارجها مع كل من عرفهم من قريب أو من بعيد. ذلك العطاء الذي يبخس قيمة صاحبه ويحيله إلى وزن على طاولة لا يقام ثباتها إلا على وزن ما وضع عليها. وسوط آخر على الجرح النازف كون معيل الأسرة ابنه البكر، بكر حتى في لباقته مع أبيه، عنفوانه الماجن الذي يطيح برمزية وقدسية الوالدين في هرم الأسرة مما جعل علال في ديمومة بين مطرقة ابنه وسندان وجعه. حتى هذه السفرة -التي طال التمهيد لها لأن "وردية" ستمكث فترة عند خالتها أمينة- بعيدة، قيد انتظار استعصى عليه الرضوخ ربما هو استعجال لقدر من حتمية ثبوته. هذه المرة أحكمت الأم قبضتها على التوقيت المناسب لنيل نعم التي تعثرت في فاهه وما أطلقها سوى هدوئه الذي يعقب لقائه بخليلته التي ينزل أسبوعيا لمخاذلتها بسبب أو بدون. يوجب مشوارا يأخذ يومه وماله، لكن كبسولة هدوئه غالية. كل الزوارق لا توصل إليه سوى زورق خليلته. قنصت الأم تلك الموافقة بجزم لا مجال فيه للتراجع. بمجرد ما دخلت الأم على وردية حاملة البشرى، حتى أبانت تأهبها المسبق، فقد أعدت رزمتها منذ زمن بعيد، مختارة أفضل القطع لديها. لم تكن البشرى حافية بل لعجت ثمن تذكرة الحافلة وبعض مما يسمى مصروف لهذه السفرة والأب علال هو من سيتولى أمر توصيل وردية لبيت خالتها في مدينة تبعدهم بأربع ساعات. ونزولا عند رغبة الأم حتى تسد الطريق في وجه ما يعكر صفوة هذا الظفر وينتكس فرحة وردية التي اعتدات تنغيص واغتيال كل ما يوشي بزهو يثلج صدرها. حتى استحال خاطرها ثكنة رماد لما تفخخ من أحلامها، بدءا بهدر مدرستها ومرورا برفض خطاب استحسنتهم وركنت إليهم، لكن لا سلطة تعلو على سلطة المعيل عرفا. والأخ الأكبر نهجا ومنهاجا للساحات الخاوية من وهج الرجولة التي تصون، تستعفف عند المقدرة وتبدي الحنان على الصلف والقسوة.
معالم جمال وردية كانت تطمس بختم العار وكأنه وصمة مخلة، الجمال الذي يصبح نقمة وسط قبيلة تفسر أي حركة أو سكون لبنات حواء على أنها إغواء تسبقه نية مبيتة للإطاحة بمعاقل الذكورة وفطاحلها.
فرحتها تلك الليلة سلبت عيناها النوم، وكأنها طفلة فرحة بملابس العيد، غدت ليلتها بيضاء من شدة براءتها ونصاعة عفافها.
بعد صلاة الفجر مباشرة توجه علال بصحبة وردية نحو الحافلة وفي طريقهما سبقها لبقالة القرية واشترى لها السكاكرة والبسكويت وقارورة ماء وعلبتي "رايبي" مشروبها المفضل الذي كان يأتيها به خلسة. فلقد كان إذا حدث ولمح بوبكر هذا المشهد آثار حفيظته متعللا أن هذا نوع من الدلال سيفسدها مستقبلا.
أخذت الحافلة وجهتها وبدأت ترمي ورائها أميالا حتى توارت معالم القرية. تنفس علال الصعداء وخاطب وردية ممازحا:
ها ّأنت غيبردوا وذنيك منا شوية
أويلي أبا لا حاشا، غنتوحشك أنت وأمي
غير أنا وأمك وبوبكر؟
أنت عارف أبا
ما ديش عليه أبنيتي، راه شوية قاصح ولكن حنين
قاصح علي أنا أختو، وعليك أنت با؟ !
جاء ردها مباغتا. وكأنها تحسست ندبات كل الخيبات التي حصدها من محصول أن بوبكر على قيد نسله وهو غلة فاسدة.
كان هذا الحوار الوحيد على طول الطريق ربما هو ما وأد كل الحوارات الممكنة بأن انشغل وجدان كل منهما بالتيه في دواخله والإلتقاء عند عتبة ألم بوبكر.
في ذلك البيت القائم بطوابقه الثلاثة، كانت مينة خالة وردية تقطن بالطابق السفلي نظرا لمرضها وعرق النسا الذي عانت منه على فترات تارة متقاربة وتارة متباعدة.
مينة إمرأة حادة الطباع تتقاذفها قبضة العصبية على أتفه الأسباب وأعظمها، أتى الزمان على لين قلبها بعد أن ترملت وأكفت شبابها على تربية وحيدها "قاسم" بمعاش زوجها والبيت الملك الذي صرف عنها الحاجة لأحد. لكن غياب السند قسم ظهرها وقطع أنفاسها التي كانت تتنوع كل ليلة بحسب كم المشاعر التي تشهر في بوابة قلبها، فليلة الخوف من المستقبل وهي عزلاء حتى من ظل رجل فلا أخ ولا أب إلا طفل يتقدم نحوها بخطواته الأولى وهو يتعلم المشي تختلف عن ليلة الحزن على شريط ذكريات توقفه ألا ليت.
توالت الليالي باختلافها. تمخضت عن امرأة حفرت كل ليلة تقاسيم وتعابير وجهها وفؤادها. فَقَلَّتْ صحتها وهرم قلبها من ثقل ما حمل. كل خط تجعيدة بملامحها يروي حكاية وتفاصيل لياليها الليلاء. وما أتعس امرأة رضخت ورضت بقانون سن فصوله مجتمع كافر بدينه لا يركع إلا لغرائزه. فلا طفولة قاسم ولا مراهقته ولا شبابه هون أو ضمد جراحها. بل على النقيض من ذلك.
تلك الأرملة الشابة التي تنهشها نظرات الشهوة وأصابع اتهام مطبوعة بخليل افتراضي، فصله العادي، وخيطه الواقع ثم ألبسه حمالوا حطب مغامرات الفحولة والتجارب الخارقة أجمعت على نفس النتيجة. "ثوب الأرملة" الذي عددوا ثقوبه حتى استحال لكاشف لا ساتر. والأصل أن الثوب نسجه رب العالمين من صنيع أقداره، لكن البشر يتفنون في تشويه العطايا الربانية.
بعد عناء السفر ارتمت وردية في أحضان خالتها مينة مغرقة إياها بالقبل والعناق الطويل، فرحت الخالة فرحت الدهر بوردية. وأكرمت وفادة علال وابنته وأقسمت عليه بالمبيت. تلك الليلة لكنه رفض متحججا بأعمال تنتظره صباح الغد، سلمها الأمانة بعد جلسته التي لم تطل كثيرا على طاولة على ما حوت صينية الشاي فقط بل زينها الفقاص وكعب الغزال والكعك المسفيوي والمسمن والحرشة والزبدة والعسل. وكانت هذه هي سفرة الاعتيادية لمينة.
أسبوع مر. ارتاحت فيه وردية بجوها الجديد وشخصياته، الخالة مينة، أم الخير عاملة البيت وهي امرأة تصغر مينة تقريبا بعقد أو أكثر. عافيتها تعطي انطباعا بأقل من عمرها. بنات الجيران اللواتي كن يتعاقبن على زيارة الخالة، وهكذا جرت العادة. فلقد كانت مينة رغم طبعها الحاد مسرفة العطاء، زكت على جراحها فأحيطت بثلة من الصبايا أنجبهم لها عطاؤها ودفئ قلبها. في هذا الأسبوع لم يزر قاسم البيت ولو مرة واحدة، لكن ذكره لم ينقطع من روايات الصبايا. فلقد عكفن على رواية الفتى الدون جوان الذي عذب قلوب العذارى، وما احتكمت صبية على قلبه، بطل المجون وشيخ النزاعات بين أقرانه، لم يكن فاره الجمال ولا بهية الطلة. لكن الصورة التي نفخت في ذهن وردية من قبل الصبايا جعلت قلبها يرف له حتى قبل أن تلمحه. ولما حدث ودخل فجأة والتقت نظراتهما. انتفضت وردية ذهولا وإعجابا ثم خجلا. أما هو فقد ذهل من جمالها وطبيعته التي توحي عن أن مهرة فائرة لا ضير في معرفة حد جمالها.
فاضت منحنياتها أنوثة في غفلة أو ربما في تحاش منها حتى لا تتفقد مفاتنها وتهتدي إلى أن لها أسلحة قد تغزو بها حصونا وقلاعا مشيدة على مر السنين. فلكل شفرته ونقطة ضعفه وإن أصيب فيها أناخ.
بعد هذا اللقاء أصبح قاسم يتردد على منزلهم على غير المعتاد. كان الحوار الوحيد الذي جمعهم هو إلقاء التحية وتدخل للخالة مينة لربط حوارات تعارفية بينهما، لكن خجل وردية كان يبتلع لسان قاسم فتثبت نظراته عليها. وتبقى الخالة مينة هي المتحكمة في دواليب حديث يبدأ منها وينتهي بها.
لقاء لم تؤسس له الحروف ولا الكلمات، لقاء الأجساد الساخنة والأوردة المنتفضة بدقات تضخ اللهفة والشهوة. فيرتفع صبيب خوض غمار اكتشاف المنحنيات. التي مهما تدثرت لاحت شواهد طغيانها. ذلك الحضن الذي تقاس به درجة الرغبة والموالاة، كانت هي كزائرة بستان تظن أنه كله ورود فاح عبقها فتسلل للنفس العطر الذي يؤسس لأسطورة الحب الذي تنبؤ عنه اللهفة، وما أتفه أسطورتها وما ألعن شباكه. فلقد كان هو قناصا متمرسا غلبت عليه طبيعته وغالبته حتى استحال )ماتادور( غايته الأولى ان يؤقع الثور الإسباني الذي تنتظره سكاكين الجزارين خارج حلبة النزال.
لم يكن ارتباكها يوقف فتوحاته بل يزيد من اشتهائه لها، ذلك الارتباك الذي هيج عقدة استعراض المكتسبات لدى الناقص الذي يدرك جهل الذي أمامه، حاجته لدور البطولة التي منع منها بأدوار كومبارس في أفلام خليلاته جعلته يتفنن في التهام سذاجة وردية -وبرائتها ربما لم تكن براءة مكتملة النصاب بقدر ما كان فتيل اكتشاف للممنوع- ارتعد هو من نشوته بين ارتعدت هي من حرارة ما قذف في أرضها. فتذكرت أن الأرض التي لها توطئ بموجب عشقي ولا شرعي سومتها رخصية.
ومن مفارقات الغرائز أن المشهد لم يعقبه فتور نشوة بلغت أقصاها ولا سكون عم بعد جلبة. بل الصمت الذي يولد من العدم لا من الوفرة.
دلف الباب بعد أن عدل ملابسه وشعره دون تكلف منه بأن يلقي نظرة أو كلمة لتلك القابعة في شرودها، فور خروجه من الغرفة، سارعت إلى الحمام فعاودها الشرود. لكن هاته المرة لم يكن فيما وقع بل في نفسها، المرآة هي من رتبت لهذا اللقاء بين نفس وما اقترفت فحواها.
لم يفتض قاسم بكارتها، بل افتض عذرية حلم وردي ترعرع معها، بأن يكون أول الرذاذ إما لحبيب فاتح أو زوج كتب لها كيفما كان قصرا أو طوعا. لكن الحلم تلطخ بسواد العبث ولحظية النشوة التي تنفق كيفما وأيما اتفق.
وفي لحظة. استنشقت رائحة دخيلة على أنفاسها، رائحة جسده التي عثت مخترقة روحها فهل كان أمر الاختراق متعلقا بالرائحة أو لما عداه؟
لملمت شتات نفسها ومسحت بفوطة مبتلة بماء وصابون ما طبع بشرتها في محاولة لطمس أو إيقاف المشهد على جسدها داخل مخيلتها. فالرائحة تحيي الجثامين المتحللة للذكريات فما بالك باليانعة.
غيرت ملابسها واضطجعت في زاوية من الغرفة تقابل مسرح عبثيتها، حضنت ركبتيها وقبعت في آخر نقطة من نفسها التي كانت تهتف أنها مازالت بكرا فلا شرعية لأية مخاوف. غطت في نومها وغطت وساوسها لفحة ارتياح لغياب دليل الدم، ما أحقر الأدلة وما أجنى الظنون.
طلعت شمس الغد بخيوط تلابيب خطيئة الليل، لكن سرعان ما توالت الشموس حتى هرئ النسيج برمته. ابتلعته الأيام وطوته الغفلة وكان نسيا منسيا.
في زيارة غير متوقعة ذات صباح حل علال ببيت مينة في رغبة باصطحاب وردية. هذه الزيارة لم يسبقها خبر ولا مكالمة ولا حتى إشعار بعيد، جعلت وردية تفطن أن القرار لا رجعت فيه فالذي تعنى الطريق لن يرجع خالي الوفاض. وللمرة الثانية ارتأى علال في اليوم نفسه للدوار محبطا كل محاولات مينة ووردية لاستبقائه تلك الليلة. فقد تحجج بأن )الخيمة خاوية( فبوبكر عمودها درجة انشغاله حالت دون تواجده بالخيمة حتى للمبيت.
قوة إصراره لم تعط مجالا لأي محاولة أخرى سوى الإذعان لرغبته. ودعت وردية بنات الجيران وخالتها التي فاضت دموع حزنها على وداع وردية التي خلقت حسا في البيت آنست وحشتها واستأنست لوجودها الذي لم يثقل ذهنها بتفكير أو جهد لإصلاح سلوك أرعن من سلوكيات وردية. فلقد كانت درجة اتزانها وتهذيبها عالية جدا، تفهم مستهل الحوار من خائنة الأعين، تميز أجناس الحديث التي تتماشى مع كل فئة عمرية. تدرك مواطن الصمت والإسترسال، حذقة، نبيهة، حيث اختلطت بمن يدانونها سننا في زي غير زي البادية. سطعت خصالها وعلت رتبتها في حركاتها وسكونها. كانت تعبيرا بليغا لذلك الذي كبر في قالب الخوف. إما أن يكسره بتمرد أو يبتكر قوالب أصغر منه مقاسا تتشكل اضطراديا حسب الظرف والحاجة.
لم يفت الخالة مينة أن فتحت محفظة نقوذ الحالات الاستعجالية تجمع بها كل ما زاد عن صرفها اليومي. وكانت الحصة وفيرة جدا ذلك أن مجيئ علال المفاجئ لم يترك لها مجالا لتوضيب هذا الوداع كما كان مخططا. له فمن العيب والعار أن لا يحوي أغراض وردية أي تذكار من زيارة خالتها. والله وحده يعلم أي نصيب من تذكار أصابها.
رجعت وردية لأحضان بيتها وأمها عادت. لأشغالها داخل الخيمة وخارجها. ولم يسجل أي جديد قبل وبعد السفرة في نمط حياة وردية، إلا من شريط متقطع اللقطات تعلنه محطة قلبها على ترددات مختلفة. لكنها دوما مباغتة، تارة تستحب توقيتها فتهيم في تفاصيل اللحظة وتارة أخرى، لكنها لم تتساءل مرة عن سبب استهجانها. أهو التوقيت أم الفعل؟ توقيت الذكرى أم الذكرى نفسها؟
ذات صباح استفاقت الأم على حركة غير طبيعية في الخيمة، خرجت من غرفتها لتتفقد ما يجري فوجدت وردية على غير حالها جاثية على ركبتيها، آلام المعي ألهبت جوفها فكان ارتجاعها متكررا. وكلما اضطجعت زادت آلامها، غلت الزعتر البري فهدأت حرقتها ونامت في صحن البيت. زال وجعها فاستسلمت لنوم عميق. حالة عرضية ناتجة عن تناولها الكسكس مرات عديدة في الأسبوع نفسه. بعد أن حضرت جنازتين في الدوار، هي التي بدأت معدتها في التعود على أشكال أطعمة مختلفة في بيت خالتها. حتى نسيت صيرورة دوارهم. هكذا نالت أمها متهكمة، لكن التهكم انقلب إلى هم تفسير وإيجاد الباعث وراء الحالة المتكررة التي استحكمت من وردية بدرجات وجع بين الأدنى والأقصى الذي يصل إلى حد الإمتناع عن الأكل مخافة الألم، هزال بدأ يظهر على وردية مع الشحوب والوهن. فمكان من علال إلا أن يقصد بها بيت خالتها لتعرضها على طبيب متمكن يفتت ويفند حيرة والديها، فلقد كان سقف مخاوفهما والذي خشياه وبشدة أن يكون الأمر متعلقا بسحر نتيجة غيرة أو حسد.
ذات ظهيرة طرق باب مينة طرقات متتالية قوية تنبئ بأن الطارق غريب على عجلة من أمره. فالقريب سيكون على علم بحالة مينة وتثاقلها في إجابة الداعي بالوقت الذي تستغرقه نتيجة آلم رجليها. وما فتئت أن فتحت الباب حتى علتها ملامح دهشة وصدمة في تلك اللحظة، وعلى قصرها تجاذب عقلها الفكرتين، أولها كان الباعث وراء هذه الزيارة. والثاني هو الحالة التي بدت عليها وردية وقد جمعت بين الهزال والصفرة، ما يجعل تغيرها أمرا لا يمكن تجاوزه أو السؤال عنه. سرعان ما تدارك علال الأمر وأطعم رغبة مينة بجواب واحد جمع السؤالين. هو أن حالة وردية المجهول سببها هي الدافع. تنفست مينة الصعداء وهدأت من روع علال:
- أنا خلعتوني ولكن متخممش غدا نصبح بها عند التازي غيكون غير تسمم.
- عليك يا مولانا، الدرية خالعنا كانت صحة سلام.
- وا علال قلت لك ما تحملش الهم الدرية مخداتش الدوا داكشي علاش مصحتش يصبح ويفتح غدا نصبحوا عند التازي راه قديم وخبرة غيقول لينا اش كاين.
كان الأمر كذلك في صباح باكر قصدت مينة ووردية الدكتور التازي أخصائي الجهاز الهضمي. أخذت الرقم الأول وجلستا في انتظار التازي الذي لم يتأخر عن موعد حضوره العادي.
لم يأخذ الكشف مدة طويلة فقد كتب مجموعة من التحاليل من ضمنها تحليلة الدم وأشار عليهم بأن يؤتى النتيجة فور صدورها.
عندما كان يفتح الطبيب ظرف تحليلة كان يفتح معه فصلا جديدة من حياة وردية، فصل الأشواك التي لا تقتلع إلا بدم. ونطق جملة على قدر عال من البرود والإرتياح وهو يطالع وردية وهو الذي لم يسبق أن سألها أو سأل خالتها عن حالتها الاجتماعية أو عن طبيعة العلاقة التي تربطهما.
- واش معرفاش براسك حامل.
كأن الجملة قطعت أميالا وتعثرت وسقطت حروفها حتى استطاعت أن تصل سمع وردية التي ركزت نظرتها على الطبيب دون رفت رمش. ملامح تتلون بين صفرة واحمرار تتدرج بتدرج الأحاسيس واختلافها ودرجة هزتها التي ضربت جدران روحها وقفص صدرها. استحضرت الليلة المشؤومة. فسرت في جسمها قشعريرة تعلن عن وصول الخبر لكل ذرة منها. أي مصير ستواجهه وعلى أية أرض. وهي العزلاء حتى من حرية الكلمة. وكأن الأقدار تتمم وأد روح لم تطئ الدنيا بعد، روحها الحبيسة بين قهر الأعراف والتقاليد وجور الزمان وتكالبه على والدها الذي كان بصيص السند، أي قوة وجبروت يمكن أن يهدأ من هول هاته القارعة ويطمس صوتها.
في زاوية أخرى كانت صكة وجه الخالة مينة إشعار بوجود كارثة بحجم السماء.
لم ينبس الطبيب ببنت شفة فقد وضحت ردة فعلهما الأمر أكثر مما يجب على الإنسان فهمه، صمت مطبق مثقل بالأحاديث والصرخات والشتائم والآهات. هول صدمة الخالة جعلها متيقظة الخطى وكأن الآلم أخرج مخزون طاقتها التي كانت تستحثه ليطاوع رغبتها في التحرك بشكل أسرع فهناك ألم يبخس كل الآلام وتعدو مقارنة به سطرا على الشمال.
كل منهما في فلكها سابحة. فيما كان وسيكون. وسرعان ما تهيمان بعد تيقظ وكأنهما تستنجدان ذلك الفلك أن ينزلهما بأرض الواقع بغير ذي الكابوس الذي لن تقويا على عيشه. لم يدر أي حوار بينهما. فالصدمة ألجمت فاههما وقطعت دابر أي رغبة في العتب أو الشرح أو السؤال. أوقفت الخالة أول سيارة أجرة بدت لها ثم نطقت أخيرا. دكتور برادة حي الليمونة إقامة الصفاء.
برادة هو الذي برد نار سكاكين الأسئلة التي سنت على مسن الخوف والدهشة ثم الحيرة والغضب فالإنكار والإستهجان.
وردية حبلى في شهرها الرابع والجنين ذكر كانت كلمات أخصائي النساء والتوليد متقطعة متهدجة، فالكشف أنسج سيناريو الخطب النادر فقد فهم الحلقات السابقة والحلقة الأخيرة من الجزء الأول هو من تولى شرحها، وردية لازالت بكرا لكنها حبلى، وردية لم ينقطع طمثها فكيف للبكر التي لم ينقطع حيضها أن تحمل في أحشائها جنينا. إن طبيعة بكارتها الغربالية التي كانت العلامة الفارقة بعد شرح الطبيب، وأخيرا انهال سيد الدموع الجارف لوردية صارخة ومجيبة بالوقت ذاته عن شرارة الأسئلة التي وجهتها عيون الخالة مينة:
- ولدك ولدك ولدك وما إن نطقت اسمه قاسم قاسم حتى بدأت تلطم وجهها وتنتف شعرها أما الخالة فقد وجنت ولم تنبس ب )شنو(. تدارك الطبيب الموقف ووقف ليهدأ وردية بعد أن أعطاها شربة ماء وأحكم قبضتها على يديها حتى تتوقف عن اللطم والتنتيف قائلا:
- فالإجهاض لم يعد ممكنا، ولن يغتفر ذنب بإقتراف ذنب أشنع منه، حاولي أن تسوي الوضع مع المدعو قاسم. اعتذر منكما. جملة حسمت الوضع وأعلنت عن ضرورة التحرك بدل النحيب واللطم.
انصرفت الخالة ووردية في وجوم تام. وردية كأنها ناجية حرب أرخت سدولها حديثا، أما الخالة فهي كالقابضة على الجمر. بالها منشطر بين زمن الواقعة وما أسس لوقوعها مع ندرة زيارات قاسم. وبين علال القابع في انتظارهما والذي كان سقف مخاوفه سحرا.
دلفت وردية والخالة. الباب توجهت وردية مسرعة نحو غرفة الضيوف متجاهلة نداءات والدها الذي سابت ركبه فقد علم أن الخطب عظيم. ولم تتبقى له سوى الخالة التي توسلتها نبرة صوته قبل كلماته:
- ها العار
- مصيبة أعلال مصيبة
- غقولي برديني
- الدرية حامل.
ارتد علال على الأريكة فصاحت الخالة "رد فيك الروح لي عطى الله عطاه"
أخرجت مينة هاتفها واتصلت بصديقتها وتركت علال ليجد نفسه أمام صدمة وإنكار ثم حزن وعجز. كيف للسحر أن ينقلب حملا؟.
اصطدام الخيالات والأطياف جعلت زوبعة روحه تفقده الوعي حرفيا. أي خطب سيواجهه هذا الأعزل الكظيم؟.
للنساء شيفرة يفهمنها في المحن وحدها، تنصهر الغيرة وتذوب المقارنات. تستحضر كل واحدة آلمها وتنسخ على ورقة شبيهتها مع اجتهادات في تقريب الصور المشتركة لتتوحدة القوى لمناصرة )لوليات(.
عباءة الضعف وقلة الحيلة المعلقة في اللاوعي لديهن مفصلة على قياس أكتاف من سبقنهن بحجم ما حمل صدرهن من انكسارات وآلام الاستضعاف، هي نفسها تلك العباءة التي تهيج مناطق بؤر القوة لديهن فينتقمن لمواقف ما استطعن تجاوزها. إن حمية الألم لدى نون النسوة ضاربة في عمق جذر تكوينهن ووحده الألم على جمعهن لقادر.
حضرت الكاملة صديقة مينة على الفور في حضرة علال الذي خارت قواه حتى على النطق، دار الحوار برمته بين الإثنتين فقط في محاولة لتفصيل الأزمنة والأمكنة لطمس معالم الجرم، وكل ما فُصِّلَ في هذا الحوار ستلبسه وردية قصرا، وعلال خوفا، وقاسم جهلا.
خسيسة هي الأقدار التي تحاك بزعم الوصاية في اتخاذ القرار. ولد صبيا في بيته أخت الكاملة - الصديقة - التي تكلفت بوردية طيلة ما تبقى من مدة حملها بصحبة علال الذي لم تقطع له رجل من ذلك البيت وكانت حجة مرض مينة هي ملهاة الحجج التي ابتلعت شك بوبكر. لم تكن تفاصيل لتنسى أو عمرا ليهدر، كانت المصيبة زمنا وقفت عقاربه، خوف يقود لخوف ومصيبة يتغذى ويقوى عظمها من الأيام وظنون النهاية. أرض شوك وشراب قطران.
ولد صبيا وما كان نسيا منسيا. وكانت أمه بكرا. ولله ذر الأعراف والتقاليد. فالحقيقة أكبر من أن تصان في جسد أو "بكارة" وللروح جيوب عميقة.
سهام الكاس